مدحت نافع يكتب / قرارات الأعلى للاستثمار في ميزان السوق
بقلم / مدحت نافع
سألنى المستثمر الآسيوى: ما الذى يجعلنى أترك فرصا للاستثمار فى دول الجوار، التى تتيح حوافز متعددة، منها المساهمة فى تمويل ما يصل إلى 70% من رأسمال المشروع الصناعى الجديد، متى كان فى الصناعات الثقيلة وبفائدة تنافسية للغاية؟! وعلى الرغم من أن إجابتى تطرّقت إلى واقع وتاريخ الاستثمار الأجنبى فى البلاد، وقدرة المستثمر على رسم خط لتطور أنشطة الأجانب فى مصر، قبل أن تنفتح أى من الأسواق المجاورة على الاستثمار الأجنبى، وما لهذا من دلالات على مستقبل الاستثمار واستقراره فى مصر وإن أصابته صدمات ودورات، غير أنى لا أخفى قلقا حقيقيا من ذلك السؤال وتلك المقارنات.
الكثير من دول الجوار تملك فرصا استثمارية شديدة الإغراء للمستثمرين الأجانب وفى مقدمتهم المصريون. وإذا كانت تكاليف إقامة وتشغيل بعض المشروعات، خاصة كثيفة العمالة، تزيد على نظيرتها فى مصر، فتلك التكاليف تتضاءل أمام تسهيلات التمويل، وإمدادات الطاقة، ووضوح واستقرار السياسات الضريبية والطاقية وتشريعات الاستثمار، بعيدا عن تعقيدات الغابة التشريعية والبيروقراطية المصرية، التى كما أفادت من التراكم التاريخى على صعيد المعرفة والخبرات، فهى تخلّف إرثا ثقيلا يتعين على المستثمر المسكين حمله على كاهل مثقل بالفعل بقرارات رفع الفائدة، وتبعات الجائحة، والتضخم الجامح، واضطراب سلاسل الإمداد، والحرب الروسية ــ الأوكرانية.. وانعكاس ذلك كله على حالة عدم اليقين، وندرة العملة الصعبة، وارتفاع تكاليف الاستثمار.
وبينما نحن كذلك، إذ بحزمة من القرارات تصدر عن المجلس الأعلى للاستثمار بتشكيله الجديد، وبرئاسة السيد رئيس الجمهورية. القرارات الاثنى والعشرون يمكن تصنيفها إلى قرارات تحفيزية، وأخرى تنظيمية رقابية، وثالثة تتعلّق بالبنية الأساسية التقنية والتشريعية، ورابعة تتصل بدعم الحياد التنافسى… وفى رأيى فإن أفضل تلك القرارات ما اتصل منها بتوجيهات محددة المدى الزمنى، لتحرك الحكومة فى اتجاه ضمان استقلالية الأجهزة المنظمة للأسواق، نظرا لأن الدولة التى أقرت بضرورة تخارجها من كثير من الأنشطة الاقتصادية، يتعين أن تنضبط علاقتها مع سائر أطراف السوق، وألا تكون الخصم والحكم فى المنازعات. وتلك الأجهزة أظن أن فى مقدمتها جهاز تنظيم الطاقة وجهاز تنظيم الاتصالات وجهاز تنظيم النقل… وهى الأجهزة التى يمكن باستقلاليتها ضمان حق المستهلك عند المشروعات المملوكة للدولة والتابعة لتنظيم تلك الأجهزة، كما يمكن ضمان حق المستثمر فى ألا يكون المنظّم فى ثكنة واحدة مع أحد أو بعض المنافسين، لمجرد أنهم جميعا ينتمون إلى الحكومة!… وكذلك ثمّنت كثيرا القرار المتعلق بدراسة استقرار السياسات الضريبية ولو لخمس سنوات، وتمنيت لو امتد تطبيقه إلى سياسات سعر الصرف وتسعير منتجات الطاقة، وتحديد جهات الولاية على الأراضى.
وإذا كانت قرارات المجلس الأعلى للاستثمار فى ذاتها تعكس اهتماما من أرفع مستويات اتخاذ القرار فى مصر بتحسين ظروف وبيئة الاستثمار، والاستجابة إلى صرخات المستثمرين، فإن ما أخشاه أنها ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، إذا لم تنشأ آلية مستقرة لرسم استراتيجية الاستثمار وخططه التنموية، بعيدا عن إطفاء الحرائق وسياسات رد الفعل. وليس أثقل على الاستثمار من أن يدار بلا رؤية أو توجهات تعكس أولويات التنمية فى مصر، وينطلق مدفوعا بنظرية الكشاف الضوئى التى يتحرك فيها القرار الاستثمارى بضغط أو بتأثير من المزاج العام السائد فى دوائر صنع القرار (راجع مقال الأسبوع الماضى).
• • •
لمّا كانت معدلات الادخار المحلى تتراوح وفقا للتقديرات المتفاوتة بين 6%ــ8% من الناتج المحلى الإجمالى فى مصر، ولمّا كان الاستثمار الأجنبى (الذى يملأ فجوة الاستثمار الناتج عن انخفاض الادخار المحلى) لا يمثل إلا 2.5% من الناتج المحلى الإجمالى، فإن معدل الاستثمار ــ الرافد للنمو الاقتصادى ــ يصعب جدا أن يصل إلى نسبة 25% التى تطمح إليها الحكومة لتحاكى الاقتصادات التى استطاعت أن تحافظ على معدلات استثمار ونمو مرتفعة وبشكل مستدام. وعلى الحكومة أن تراجع مستهدفات خطتها المالية واستراتيجية 2030 التى أوشكت أن تبلغ مداها دون تحقيق أهدافها بشكل متناسب مع ما مضى بالفعل من سنوات، وما تبقى منها…
الادخار المحلى إذن فى أدنى مستوياته التاريخية، وكذلك الاستثمار المحلى الخاص الذى لم يعد يمثّل أكثر من ثلث حجم الاستثمار الإجمالى فى مصر، ولم تعد التمويلات المقدّمة للقطاع الخاص المستثمر تعكس إلا تلك التركيبة المختلة، بعد أن كانت نسبة الائتمان المتاح لهذا القطاع قد بلغت 55% من الناتج المحلى الإجمالى فى أحد الأعوام، وهى نسبة كبيرة للغاية لم تتكرر. ولا يمكن أن نزعم تعزيز الادخار (وخاصة الاختيارى منه) فى ظل تراجع نصيب الفرد من الدخل القومى وزيادة الميل الحدى للاستهلاك المشفوع بالتراجع المستمر فى الدخول الحقيقية، نتيجة التهام معدلات التضخم للأجور الاسمية (أى أن راتب الموظف الذى كان 5000 جنيه العام الماضى أصبح اليوم يساوى 3000 جنيه بأسعار اليوم، باعتبار معدل التضخم الأساسى قد بلغ أو تجاوز قليلا 40%، أى أن ارتفاع المستوى العام للأسعار قد أكل من القدرة الشرائية لهذا الراتب ألفى جنيه فى عام واحد!). إذن لا بديل عن اجتذاب الاستثمار الأجنبى، لا سيما مع عجز الدولة عن الاستمرار فى سد فجوة الاستثمار دون أن تتسبب فى مزيد من الخلل فى قوى العرض والطلب، ومزيد من العجز فى موازنتها العامة.
• • •
القرارات إذن ضرورية وإلا ما كانت لتصدر بهذه الكثافة وهذه السرعة فى دعوة المجلس الأعلى للاستثمار للانعقاد بعد تشكيله الجديد بأيام. لكن المستثمر يتساءل: ما الذى يضمن ألا نظل باستمرار فى حالة انتظار لقرارات إغاثة جديدة من المجلس الأعلى؟ وما الذى يجعل تلك القرارات مختلفة عن سابقتها التى صدرت عن ذات المجلس فى تشكيله السابق؟ والأهم من هذا كله ما الذى يكفل تحوّل القرارات العليا إلى إجراءات تنفيذية وواقع على الأرض؟ فالدولة نجحت بالفعل فى إحداث طفرة فى سرعة تأسيس الشركات، لكن الفترة المنقضية بين التأسيس والتشغيل هى الأهم، وهى طويلة للغاية فى المشروعات الكبرى والحيوية.
الموظف العام الذى يعانى من تدنى أجره وقلة تأهيله وانعدام تدريبه على تطورات الاستثمار ومفرداته الحديثة، يظل دائما متهما بخلق العقبات أمام سيولة وحركة النشاط الاستثمارى. دليل المستثمر على ذلك هو أنه متى حقق اتصالا فعّالا مع الوزير المختص أو رئيس الوزراء انفتحت أمامه الأبواب المغلقة إلى حد كبير… هذا قول يعوزه الكثير من المراجعة والتصويب. صحيح أن الموظف العام (إلا من رحم ربى) صار عبئا على الجهاز الإدارى للدولة، لا من حيث قيمة الأجور التى يحصل عليها، إذ هى فى تراجع مستمر كنسبة من إجمالى المصروفات العامة. لكن العبء الحقيقى يأتى من الوفورات السلبية التى يصنعها الموظف بإفشال المشروع الاستثمارى عمدا أو عقما، أو وضع المستثمر دائما فى طاحونة البيروقراطية والفساد الإدارى حتى يهرب… لكن تلك الأدواء التى صار يعانيها ذلك الموظف هى مسئولية الحكومة التى يتعيّن عليها تأهيل الموظف وإعداده لتحديات ومتطلبات النشاط الاقتصادى وأهداف التنمية. كذلك فإن قدرة الوزير المختص على الوثوب فوق الكثير من الإجراءات، لا تعكس بالضرورة مهارة إدارية أو انفتاحا وتفهّما، إذ إن الأولى بالمسئول أن يضع الضوابط التى تسمح بسيولة الأداء حتى ولو لم يكن موجودا، وهذا من أهم معايير النجاح. هو فقط وزير شجاع إذ لم ترهبه آلة الموظفين التابعين له، والتى كثيرا ما تعمل على إرهاب المسئول. هذا يعيدنا إلى ضرورة إحياء مواد تحصين الموظف العام حسن النية، حتى لا تكون عاقبة تحمله لمخاطر اتخاذ القرار الخاطئ هى السجن، فى الوقت الذى لا تتجاوز فيه تلك العاقبة لفت النظر أو حتى الفصل فى القطاع الخاص.
أعتقد أيضا أن تطرق المجلس الأعلى للاستثمار للتوسّع فى منح الرخصة الذهبية هو أمر إيجابى أيضا، وقد طالبت به كثيرا. بل وطالبت أن تكون كل التراخيص ذهبية (من حيث الطبيعة والتيسير). وكان من اللافت أن تتجه عناية الدولة إلى إنشاء وحدة مركزية تابعة لمجلس الوزراء، تختص باتخاذ قرارات هيكلة ونقل تبعية الشركات المملوكة للدولة. وكنت أفضّل تفعيل روح القانون 203 لقطاع الأعمال العام (قبل تعديله الأخير الذى لا أراه مفيدا) وأن تتحوّل الشركات القابضة إلى شركات إدارة أصول من حيث التكوين والهيكل والكفاءات والإجراءات المنظمة، بما يساعد على إنفاذ وثيقة ملكية الدولة ويحقق إدارة ذات كفاءة للمال العام، لا تستهدف التخارج فقط لتوفير المال فى الأجل القصير على حساب التدفقات المستقبلية، ولكن تعمل من منطلق تحسين وإنماء المال العام، مع رفع كفاءة الكيانات المملوكة للدولة (سواء ملكية كاملة أو جزئية) حتى وإن كان الغرض النهائى هو تخارج الدولة ودخول القطاع الخاص الأقدر على الإدارة ومواجهة الصدمات.